الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
(وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا لَك أَيُّهَا الْمُتَقَشِّفُ (مَعَ طَوْلٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ كَثْرَةِ (الْغِنَى) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ضِدُّ الْفَقْرِ , وَإِذَا فُتِحَتْ الْغَيْنُ مُدِّدَ بِهِ . وَالْغِنَاءُ كَالْكِسَاءِ مِنْ الصَّوْتِ مَا طرب بِهِ وَكَسَمَاءِ رَمْلٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ , وَهُوَ الْفَضْلُ وَالْقُدْرَةُ وَالْغِنَى وَالسَّعَةُ , كَمَا فِي قوله تعالى فَإِنَّ التَّوَاضُعَ لَيْسَ هُوَ فِي اللِّبَاسِ . كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ مَنْ لَيْسَ لَدَيْهِ تَحْقِيقٌ مِنْ النَّاسِ , بَلْ التَّوَاضُعُ وَالِانْكِسَارُ , وَالذُّلُّ وَالِافْتِقَارُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ بِلَا إنْكَارٍ . وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: أَجِدْ الثِّيَابَ إذَا اكْتَسَيْت فَإِنَّهَا زَيْنُ الرِّجَالِ بِهَا تُهَابُ وَتُكْرَمُ وَدَعِ التَّوَاضُعَ فِي اللِّبَاسِ تَحَرِّيًا فَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ وَتَكْتُمُ فَدَنِيُّ ثَوْبِك لَا يَزِيدُك زُلْفَةً عِنْدَ الْإِلَهِ وَأَنْتَ عَبْدٌ مُجْرِمُ وَبَهَاءُ ثَوْبِك لَا يَضُرُّك بَعْدَمَا تَخْشَى الْإِلَهَ وَتَتَّقِي مَا يَحْرُمُ قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ , وَهُوَ أَخْذُ الزِّينَةِ فَقَالَ قَالَ: وَكَانَ لِبَعْضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بِمَبْلَغٍ عَظِيمٍ مِنْ الْمَالِ , وَكَانَ يَلْبَسُهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: رَبِّي أَحَقُّ مَنْ تجملت لَهُ فِي صَلَاتِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ . لَا سِيَّمَا إذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَلَابِسِهِ وَنِعْمَتِهِ الَّتِي أَلْبَسَهُ إيَّاهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . انْتَهَى . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ . وَرَوَاهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ . زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ " فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى نِعْمَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ " . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَحَسَّنَهَا وَلَفْظُهُ " فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى عَلَى عَبْدِهِ أَثَرَ نِعْمَتِهِ " . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَعَلَيْهِ مُطْرَفٌ مِنْ خَزٍّ لَمْ نَرَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ , وَلَا بَعْدَهُ , فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَلْيُظْهِرْهَا , فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ " وَفِي لَفْظٍ " عَلَى عَبْدِهِ " . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه " أَنَّ مَالِكَ ذِي يَزَنَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً أَخَذَهَا بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ نَاقَةً فَقَبِلَهَا " . وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: " اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ نَاقَةً فَلَبِسَهَا " . وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ بِلَفْظِ " بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ أُوقِيَّةً " . وَفِي مَرَاسِيلِ ابْنِ سِيرِينَ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى حُلَّةً أَوْ قَالَ ثَوْبًا بِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ نَاقَةً " . وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ رحمه الله قَالَ " أَهْدَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْهُدْنَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ حُلَّةَ ذِي يَزَنَ اشْتَرَاهَا بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ , فَرَدَّهَا عَلَيْهِ , وَقَالَ: إنِّي لَا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ , فَبَاعَهَا حَكِيمٌ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ اشْتَرَاهَا لَهُ فَلَبِسَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " . وَتَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ . وَأَنَّ مُعَاذًا رضي الله عنه اشْتَرَى حُلَّةً كَانَ يَلْبَسُهَا إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ . وَكَانَ حَالُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم وَحَالُ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ . وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ , يَكُونُونَ بِحَسَبِ الْحَالِ , لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ مَوْجُودٍ " وَلَا يَتَكَلَّفُونَ حَوْزَ مَفْقُودٍ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَهْدِيَنَا طَرِيقَهُمْ , وَيُلْهِمَنَا تَوْفِيقَهُمْ , وَيَرْزُقَنَا تَحْقِيقَهُمْ إنَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ . وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التكلان .
قُلْت: وَفِي تَجَمُّلِ الْأَغْنِيَاءِ عِدَّةُ فَوَائِدَ: مِنْهَا إظْهَارُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ . وَمِنْهَا الْتِمَاسُ الْفُقَرَاءِ مِمَّا لَدَيْهِ . وَمِنْهَا لِئَلَّا تُدْفَعَ الزَّكَاةُ إلَيْهِ . وَمِنْهَا دَفْعُ الْإِسَاءَةِ مِمَّنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ: وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ التَّوَاضُعِ وَالِانْخِفَاضِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْمِنَّةِ لِمَنْ أَسْدَى إلَيْهِ هَذِهِ النِّعَمَ , وَالشُّكْرَ لَهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى مَا مَنَحَهُ مِنْ الْكَرَمِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " مَا أَنْعَمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ لَهُ - شُكْرَهَا , وَمَا عَلِمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً عَلَى ذَنْبٍ إلَّا غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَشْتَرِي الثَّوْبَ بِالدِّينَارِ فَيَلْبَسُهُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فَمَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ " , وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلَا بَأْسَ فِي لُبْسِ الفرا وَاشْتِرَائِهَا جُلُودَ حَلَالٍ مَوْتُهُ لَمْ يوطد (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ (فِي لُبْسِ) الْإِنْسَانِ (لِلْفِرَاءِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ فَرْوَةٍ: اللِّبَاسُ الْمَعْرُوفُ (وَ) لَا بَأْسَ أَيْضًا (بِاشْتِرَائِهَا) لِأَنَّ مَا حَلَّ اسْتِعْمَالُهُ بِلَا ضَرُورَةٍ حَلَّ شِرَاؤُهُ بِشَرْطِ كَوْنِ الفرا (جُلُودَ) حَيَوَانٍ (حَلَالِ) الْأَكْلِ كَالْخَرُوفِ وَالْمَعْزِ وَالْحَوْصَلِ , وَبِشَرْطِ كَوْنِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ قَدْ ذُكِّيَ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً ; وَلِذَا قَالَ (مَوْتُهُ) أَيْ: مَوْتُ الْحَيَوَانِ الَّذِي الْفِرَاءُ مِنْ جِلْدِهِ (لَمْ يُوَطَّدْ) أَيْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ . وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ انْتِفَاءُ عِلْمِ مَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ لَا الْعِلْمُ أَنَّهُ قَدْ ذُكِّيَ . فَإِذَا وَجَدْنَا جِلْدًا مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ طَاهِرٌ مَا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ , أَوْ ذَكَّاهُ مَنْ لَمْ تَحِلَّ ذَكَاتُهُ لَهُ .
وَكَاللَّحْمِ الْأَوْلَى احظرن جِلْدَ ثَعْلَبٍ وَعَنْهُ لِيُلْبَسْ وَالصَّلَاةَ بِهِ اصدد (وَكَاللَّحْمِ) فِي الرِّوَايَةِ (الْأَوْلَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُون الْوَاوِ (اُحْظُرَن) أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ أَيْ امْنَعْ (جِلْدَ ثَعْلَبٍ) كَلَحْمِهِ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهِ وَلَا لُبْسُ جِلْدِهِ . وَالثَّعْلَبُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ: مَعْرُوفٌ , وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى ثَعْلَبَةٌ وَالْجَمْعُ أَثْعَلُ . وَفِي حَدِيثٍ " شَرُّ السِّبَاعِ هَذِهِ الأثعل " يَعْنِي الثَّعَالِبَ رَوَاهُ ابْنُ قَانِعٍ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا . وَكُنْيَةُ الثَّعْلَبِ أَبُو الْحَصِينِ , فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَبُعًا . فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِهِ , وَلُبْسُ جِلْدِهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ (الثَّعْلَبِ) . وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَحْرُمُ ثَعْلَبٌ . قَالَ: وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الثَّعْلَبِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِيهِ إلَّا عَطَاءً . وَكُلُّ شَيْءٍ اشْتَبَهَ عَلَيْك فَدَعْهُ انْتَهَى . وَعِبَارَةُ الْإِنْصَافِ: أَمَّا الثَّعْلَبُ فَيَحْرُمُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ , يَعْنِي الْمُوَفَّقَ وَالشَّارِحَ , يَعْنِي ابْنَ أَخِيهِ شَمْسَ الدِّينِ بْنِ أَبِي عُمَرَ رضي الله عنهما: أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ الثَّعْلَبِ . قَالَ النَّاظِمُ: هَذَا أَوْلَى . وَصَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ . وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ . (وَعَنْهُ) أَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه (لِيُلْبَسْ) اللَّامُ هَذِهِ لَامُ الْأَمْرِ وَالْمُرَادُ أَمْرُ إبَاحَةٍ , يَعْنِي يُبَاحُ لُبْسُ الْفِرَاءِ مِنْ جِلْدِ الثَّعْلَبِ (وَ) لَكِنَّ (الصَّلَاةَ) مِنْ الْمُصَلِّي (بِهِ) أَيْ بِجِلْدِ الثَّعْلَبِ يَعْنِي أَنَّ صَلَاةَ لَابِسِ جِلْدٍ لِلثَّعْلَبِ مَعَ إبَاحَةِ لُبْسِهِ (اصدد) أَيْ امْنَعْ صِحَّتَهَا . وَعَنْهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ . قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنْ يُلْبَسَ إذَا دُبِغَ بَعْدَ تَذْكِيَتِهِ . لَكِنْ اخْتَلَفَ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ . وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: إنْ ذُكِّيَ وَدُبِغَ جِلْدُهُ أُبِيحَ مُطْلَقًا . وَالْحَاصِلُ: أَنَّ فِي أَصْلِ إبَاحَةِ لَحْمِ الثَّعْلَبِ رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْحُرْمَةُ , وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا . وَالثَّانِيَةُ الْإِبَاحَةُ . قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: مُبَاحٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَاخْتَارَهَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْخِرَقِيُّ , وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْكَافِي , وَالْهِدَايَةِ , وَالْمُذْهَبِ , وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ , وَالْمُسْتَوْعِبِ , وَالْخُلَاصَةِ , وَالْمُحَرَّرِ , وَالرِّعَايَتَيْنِ , وَالْحَاوِيَيْنِ , وَإِدْرَاكِ الْغَايَةِ , وَالزَّرْكَشِيِّ , وَتَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ , وَغَيْرِهِمْ . وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ فَهَلْ يُبَاحُ لُبْسُ جِلْدِهِ أَوْ لَا؟ رِوَايَتَانِ . وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ أَوْ لَا تَصِحُّ؟ رِوَايَتَانِ . وَعَلَى الْقَوْلِ بِالصِّحَّةِ هَلْ تُكْرَهُ أَوْ لَا؟ رِوَايَتَانِ . قُلْت: اخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ - أَعْلَى اللَّهُ كَعْبَهُ - جَوَازَ لُبْسِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ . فَإِنَّهُ سُئِلَ رضي الله عنه عَنْ الْفِرَاءِ مِنْ جُلُودِ الْوُحُوشِ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا؟ فَأَجَابَ الْحَمْدُ لِلَّهِ , أَمَّا جُلُودُ الْأَرْنَبِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا بِلَا نِزَاعٍ . وَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِيهِ . انْتَهَى .
وَقَدْ كَرِهَ السَّمُّورَ وَالْفَنَكَ أَحْمَدُ وسنجابهم والقاقم أَيْضًا ليزدد (وَقَدْ كَرِهَ السَّمُّورَ) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (وَ) كَرِهَ (الفنك) الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه , أَيْ كَرِهَ لُبْسَ جُلُودِ السَّمُّورِ وَالْفَنْكِ فَأَمَّا السَّمُّورُ فَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمِيمِ الْمُشَدِّدَةِ الْمَضْمُومَةِ عَلَى وَزْنِ السَّفُّودِ وَالْكَلُّوبِ , حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ يُشْبِهُ السِّنَّوْرَ . وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ النَّمِرُ , وَإِنَّمَا الْبُقْعَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَثَّرَتْ فِي تَغْيِيرِ لَوْنِهِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ: إنَّهُ حَيَوَانٌ جَرِيءٌ لَيْسَ فِي الْحَيَوَانِ أَجْرَأُ مِنْهُ عَلَى الْإِنْسَانِ , لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِالْحِيَلِ , وَذَلِكَ بِأَنْ تُدْفَنَ لَهُ جِيفَةٌ يُصَادُ بِهَا , وَلَحْمُهُ حُلْوٌ وَالتُّرْكُ يَأْكُلُونَهُ . قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: وَجِلْدُهُ لَا يُدْبَغُ كَسَائِرِ الْجُلُودِ . قَالَ: وَمِنْ عَجِيبِ مَا وَقَعَ لِلنَّوَوِيِّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ أَنَّهُ قَالَ: السَّمُّورُ طَائِرٌ . قَالَ: وَلَعَلَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ , وَأَعْجَبُ مِنْهُ مَا حَكَى ابْنُ هِشَامٍ السَّبْتِيُّ فِي شَرْحِ الْفَصِيحِ أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْجِنِّ . وَخُصَّ هَذَا بِاِتِّخَاذِ الْفَرْوِ مِنْ جُلُودِهِ لِلِينِهَا وَخِفَّتِهَا وَدِفَائِهَا وَحُسْنِهَا وَتَلْبَسُهُ الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ . قَالَ مُجَاهِدٌ: رَأَيْت عَلَى الشَّعْبِيِّ قَبَاءَ سَمُّورٍ . وَأَمَّا الفنك بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالنُّونِ عَلَى وَزْنِ عَسَلٍ فدويبة يُؤْخَذُ مِنْهَا الْفَرْوُ . قَالَ ابْنُ الْبَيْطَارِ: إنَّهُ أَطْيَبُ مِنْ جَمِيعِ الْفِرَاءِ , يُجْلَبُ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ الصَّقَالِبَةِ , وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِي لَحْمِهِ حَلَاوَةٌ , وَهُوَ أَبْرَدُ مِنْ السَّمُّورِ , وَأَعْدَلُ وَأَحَرُّ مِنْ السِّنْجَابِ يَصْلُحُ لِلْأَبْدَانِ الْمُعْتَدِلَةِ . ذُكِرَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ . قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: فِي السَّمُّورِ وَالْفَنْكِ وَجْهَانِ , أَصَحُّهُمَا يَحْرُمُ . انْتَهَى . (تَنْبِيهٌ) قَدْ نَسَبَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى كَرَاهَةَ السَّمُّورِ والفنك لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه . وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْإِمَامَ الْقَاضِيَ قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: فِي السَّمُّورِ والفنك وَجْهَانِ , وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اصْطِلَاحَ أَصْحَابِنَا - رَحِمُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا هُوَ لِلْإِمَامِ رضي الله عنه أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالرِّوَايَتَيْنِ أَوْ الرِّوَايَاتِ . وَقَدْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالَ عَلَى ذَلِكَ , وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فَهُوَ لِلْأَصْحَابِ لَيْسَ إلَّا . لَكِنَّ مُرَادَ النَّاظِمِ أَنَّ قِيَاسَ مَذْهَبِهِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ , وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْإِنْصَافَ صَحَّحَ الْحُرْمَةَ ; وَلِذَا قَالَ الْحَجَّاوِيُّ رحمه الله تعالى: لَا أَعْلَمُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيهِمَا كَلَامًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(وَ) قَدْ كَرِهَ أَيْضًا (سنجابهم) أَيْ يُكْرَهُ لُبْسُ جُلُودِ السِّنْجَابِ وَهُوَ حَيَوَانٌ عَلَى حَدِّ الْيَرْبُوعِ أَكْبَرُ مِنْ الْفَأْرِ , شَعْرُهُ فِي غَايَةِ النُّعُومَةِ , يُتَّخَذُ مِنْ جِلْدِهِ الْفِرَاءُ يَلْبَسُهُ الْمُتَنَعِّمُونَ , وَهُوَ شَدِيدُ الْحِقْدِ إذَا أَبْصَرَ الْإِنْسَانَ صَعِدَ الشَّجَرَ الْعَالِيَ , وَفِيهَا يَأْوِي , وَمِنْهَا يَأْكُلُ , وَهُوَ كَثِيرٌ بِبِلَادِ الصَّقَالِبَةِ وَالتُّرْكِ , وَمِزَاجُهُ حَارٌّ رَطْبٌ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ عَلَى حَرَكَةِ الْإِنْسَانِ , وَأَجْوَدُ جُلُودِهِ الْأَزْرَقُ الْأَمْلَسُ . قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: فِي السِّنْجَابِ وَجْهَانِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالرِّعَايَةِ الصُّغْرَى وَالْحَاوِيَيْنِ وَالنَّظْمِ وَالْفُرُوعِ أَحَدُهُمَا يَحْرُمُ , صَحَّحَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَتَصْحِيحُ الْمُحَرَّرِ . وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْرُمُ لِأَنَّهُ يَنْهَشُ الْحَيَّاتِ فَأَشْبَهَ الْجُرُزَ . وَمَيْلُ الْإِمَامِ الْمُوَفَّقِ وَابْنِ أَخِيهِ الشَّارِحِ إلَى الْإِبَاحَةِ . (وَ) كَذَا كَرِهَ (القاقم) وَهُوَ دُوَيْبَةٌ تُشْبِهُ السِّنْجَابَ , إلَّا أَنَّهُ أَبْرَدُ مِنْهُ مِزَاجًا وَأَبْيَضُ ; وَلِهَذَا هُوَ أَبْيَضُ يقق , وَيُشْبِهُ جِلْدُهُ جِلْدَ الفنك , وَهُوَ أَعَزُّ قِيمَةً مِنْ السِّنْجَابِ , فَأَشْعَرَ كَلَامُ النَّاظِمِ بِكَرَاهَةِ لُبْسِهِ (أَيْضًا) كَالسِّنْجَابِ عَلَى مَا عَلِمْت فِيهِ (ليزدد) الْوَاقِفُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ مِنْ إبَاحَةِ الْمُبَاحِ وَحَظْرِ الْمُحَرَّمِ , وَحِكَايَةُ الْوَجْهَيْنِ لِيَتَبَصَّرَ وَيَفْهَمَ , وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ . تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: لَمْ أَرَ لِمُتَقَدِّمِي الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي القاقم كَلَامًا , وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْفُرُوعِ وَلَا تَصْحِيحِهِ , وَلَا فِي الْإِنْصَافِ وَلَا فِي التَّنْقِيحِ وَلَا فِي الْمُقْنِعِ , وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي غَايَةِ المطلب وَالْآدَابِ الْكُبْرَى وَالتَّنْقِيحِ وَالْمُنْتَهَى , وَذَكَرَهُ فِي الْإِقْنَاعِ فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ . وَكَأَنَّ النَّاظِمَ رحمه الله تعالى قَاسَهُ عَلَى السِّنْجَابِ , وَحَكَى فِيهِ الْخِلَافَ الَّذِي فِي السِّنْجَابِ , وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: ليزدد أَيْ: القاقم عَلَى مَا ذَكَرُوهُ ; إذْ الْعِلَّةُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ , وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ . الثَّانِي: اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الْقَوْلِ بِحُرْمَةِ الْمَذْكُورَاتِ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيٍّ رضي الله عنه " كُلُّ ذِي نَابٍ حَرَامٌ " وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ , فتخص عُمُومُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ , وَالثَّعْلَبُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ ذَوَاتُ أَنْيَابٍ , فَهِيَ مِنْ السِّبَاعِ , فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْي . وَفِي تَمْهِيدِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ السِّنْجَابَ وَالْفَنَكَ وَالسَّمُّورَ كُلُّ ذَلِكَ سَبُعٌ مِثْلُ الثَّعْلَبِ وَابْنِ عُرْسٍ انْتَهَى . وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَبَاحَ لُبْسَ جِلْدِ الثَّعْلَبِ فَهُوَ يُبِيحُ جِلْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ ; لِأَنَّهَا مُشَبَّهَةٌ بِهِ مِنْ كَوْنِهَا مِثْلَهُ فِي السَّبْعِيَّةِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الثَّالِثُ: أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ الْفِرَاءَ وَالْجُلُودَ مِثْلَ السِّنْجَابِ وَالسَّمُّورِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْجُلُودِ وَلَبِسَهَا وَأَلْبَسَهَا شَيْخُ شَاهْ الْمُلَقَّبُ عِنْدَ الْعَجَمِ يِيشْ دَادِيَانْ , كَانَ مَلِكًا حَكِيمًا عَادِلًا فَطِنًا , وَلَهُ كِتَابٌ عَظِيمٌ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَأَنْوَاعِ الْهَيَاكِلِ , وَجُدِّدَ فِي خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ . وَاسْمُ كِتَابِهِ جاودان الصَّغِيرُ , وَتُرْجِمَ بِالْعَرَبِيَّةِ . قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَارِيخِهِ: يَدُلُّ كِتَابُهُ عَلَى حِكْمَتِهِ وَدِيَانَتِهِ وَحَذَاقَتِهِ حَتَّى إنَّ الْعَجَمَ قَالَتْ بِنُبُوَّتِهِ . وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَرَكَ الْمُلْكَ وَتَخَلَّى لِلْعِبَادَةِ , فَقُتِلَ فِي مَعْبَدِهِ , وَانْتَقَمَ مِنْ بَعْدِهِ طهمورث مِنْ قَتَلَتِهِ وَأَبَادَهُمْ جَمِيعًا , وَبَنَى فِي مَوْضِعِهِ مَدِينَةَ بَلْخِي . قَالَ عَلِيٌّ دَدَهْ فِي أَوَائِلِهِ: وَكَانَ تِلْمِيذًا لِإِدْرِيسَ عليه السلام . وَذَكَرَهُ فِي أُصُولِ التَّوَارِيخِ وَغَيْرِهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي نَصِّهِ لَا بَأْسَ فِي جِلْدِ أَرْنَبٍ وَكُلَّ السِّبَاعِ اُحْظُرْ كَهِرٍّ بأوطد (وَفِي نَصِّهِ) أَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه (لَا بَأْسَ) لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ (فِي) لُبْسِ جِلْدِ (أَرْنَبٍ) وَاحِدَةُ الْأَرَانِبِ , وَهُوَ حَيَوَانٌ يُشْبِهُ الْعِنَاقَ قَصِيرُ الْيَدَيْنِ طَوِيلُ الرِّجْلَيْنِ عَكْسُ الزَّرَافَةِ , يَطَأُ الْأَرْضَ عَلَى مُؤَخَّرِ قَوَائِمِهِ . وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى , وَذَكَرُهَا يُقَالُ لَهُ الْخُزَزُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَضْمُومَةِ وَبَعْدَهَا زَايَانِ , وَجَمْعُهُ خُزَّانِ كَصُرَدٍ وصردان , وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى عكرشة . وَالْخِرْنِقُ وَلَدُ الْأَرْنَبِ , فَهُوَ أَوَّلًا خِرْنِقُ ثُمَّ سَخْلَةٌ ثُمَّ أَرْنَبٌ . وَقَضِيبُ الذَّكَرِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَذَكَرِ الثَّعْلَبِ أَحَدُ شَطْرَيْهِ عَظْمٌ وَالْآخَرُ عَصَبٌ . وَرُبَّمَا رَكِبَتْ الْأُنْثَى الذَّكَرَ عِنْدَ السِّفَادِ لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّبَقِ , وَتَسْفِدُ وَهِيَ حُبْلَى . ذُكِرَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ . وَذُكِرَ أَنَّ الْأَرْنَبَ يَكُونُ عَامًا ذَكَرًا وَعَامًا أُنْثَى , كَذَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (فَائِدَةٌ) الْأَرْنَبُ تَحِيضُ . وَمِنْ ذَا قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَضَحِكُ الْأَرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا كَمِثْلِ دَمِ الْحَرْبِ يَوْمَ اللقا
وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ اللَّوَاتِي تَحِيضُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ثَمَانِيَةٌ: الْمَرْأَةُ , وَالضَّبْعُ , وَالْخُفَّاشُ , وَالْأَرْنَبُ , وَالْكَلْبَةُ , وَالْفَرَسُ , وَالنَّاقَةُ , وَالْوَزَغُ . وَنَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: إنَّ اللَّوَاتِي يَحِضْنَ الْكُلَّ قَدْ جُمِعَتْ فِي ضِمْنِ بَيْتٍ فَكُنْ مِمَّنْ لَهُنَّ يَعِي امْرَأَةٌ نَاقَةٌ مَعَ أَرْنَبٍ وَزَغٌ وَكَلْبَةٌ فَرَسٌ خُفَّاشٌ مَعَ ضَبْعٍ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ إبَاحَةُ لُبْسِ جِلْدِ الْأَرْنَبِ لِحِلِّ أَكْلِ لَحْمِهَا . جَزَمَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ , وَالنَّظْمِ , وَالْوَجِيزِ , وَنِهَايَةِ ابْن زِرَّيْنِ , وَالْمُنَوَّرِ , وَمُنْتَخَبِ الْآدَمِيِّ , وَالْكَافِي , وَالشَّرْحِ , وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ . وَقِيلَ: لَا . وَالْمَذْهَبُ بَلَى . وَبِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمَا كَرِهَا أَكْلَهَا (الْأَرْنَبِ) . حُجَّتُنَا مَا رَوَى الْجَمَاعَةُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ " نَفَحْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ عَلَيْهَا فَلَغَبُوا فَأَخَذْتهَا وَأَتَيْت بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا , وَبَعَثَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا وَفَخِذِهَا فَقَبِلَهُ " . وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ " كُنْت غُلَامًا حزورا فَصِدْت أَرْنَبًا فَشَوَيْتهَا فَبَعَثَ مَعِي أَبُو طَلْحَةَ بِعَجُزِهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " والحزور بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ الْمُرَاهِقُ . وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَقَالَ " هِيَ حَلَالٌ " وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
(وَكُلُّ السِّبَاعِ) مِنْ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَنَحْوِهَا (اُحْظُرْ) امْنَعْ لُبْسَ شَيْءٍ مِنْ جُلُودِهَا لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ لِنَجَاسَتِهَا وَعَدَمِ طَهَارَتِهَا بِالدِّبَاغِ (ك) مَا تَمْنَعُ لُبْسَ جِلْدِ (هِرٍّ) أَيْ سِنَّوْرِ الْبَرِّ . وَأَمَّا السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ فَلَا شَكَّ فِي الْمَذْهَبِ فِي حُرْمَتِهِ وَحُرْمَةِ لُبْسِ جِلْدِهِ . قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَأَمَّا سِنَّوْرُ الْبَرِّ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ حَرَامٌ , صَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ . قَالَ النَّاظِمُ: هَذَا أَوْلَى . وَفِي الْفُرُوعِ: يَحْرُمُ سِنَّوْرُ بَرٍّ عَلَى الْأَصَحِّ . وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ , وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ , وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمُنَوَّرِ وَمُنْتَخَبِ الْآدَمِيِّ , وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا . وَعَنْهُ يُبَاحُ . وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْكَافِي وَالْمُحَرَّرِ وَالْإِشَارَةِ لِلشِّيرَازِيِّ وَالْبُلْغَةِ . وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْهِرَّةِ وَأَكْلِ ثَمَنِهَا " . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنَّوْرِ " فَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ الْوَحْشِيِّ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ وَقِيلَ: نَهْيُ تَنْزِيهٍ حَتَّى يَعْتَادَ النَّاسُ هِبَتَهُ وَإِعَارَتَهُ كَمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ , وَتَقَدَّمَ هَذَا . وَقَوْلُ النَّاظِمِ (بأوطد) مُتَعَلِّقٌ بِ اُحْظُرْ , أَيْ: بِأَثْبَتَ وَأَوْلَى مِنْ اللَّوَاتِي قَبْلَهُ . وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ: أَمَّا فِي الْأَهْلِي فَلِأَنَّهُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ , وَأَمَّا فِي الْبَرِّيِّ فَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِبَاحَتِهِ دُونَ الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ تِلْكَ كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ إنْ كُنْت ذَا تَفَطُّنٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَنْ يَرْتَضِي أَدْنَى اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا سَيُكْسَى الثِّيَابَ الْعَبْقَرِيَّاتِ فِي غَدِ (وَمَنْ) أَيْ: شَخْصٌ يَعْنِي كُلَّ إنْسَانٍ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (يَرْتَضِي) هُوَ لِنَفْسِهِ (أَدْنَى) أَيْ أَنْزَلَ وَأَرْدَأَ (اللِّبَاسِ) أَيْ الْمَلْبُوسِ مِنْ إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَقَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ وَغَيْرِهَا , وَإِنَّمَا كَانَ رِضَاهُ بِذَلِكَ الْأَدْنَى (تَوَاضُعًا) أَيْ لِأَجْلِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَانْخِفَاضًا وَاحْتِقَارًا لِلنَّفْسِ وَلِلدُّنْيَا وَزِينَتِهَا . وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ بِتَرْكِهِ لَهَا حِينَئِذٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى لُبْسِهَا . وَإِنَّمَا تَرَكَهَا تَوَاضُعًا لَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (سَيُكْسَى) بِتَرْكِهِ لِحُبِّ الزِّينَةِ وَالِافْتِخَارِ وَرِضَاهُ بِالدُّونِ وَالِاحْتِقَارِ (الثِّيَابَ الْعَبْقَرِيَّاتِ) نِسْبَةً إلَى قَرْيَةٍ ثِيَابُهَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ . وَالْعَبْقَرِيُّ الْكَامِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . وَفِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ فِي رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فِي قَوْلِهِ فِي حَقِّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا أَحْسَنَ نَزْعًا مِنْهُ . قَالَ: الْعَبْقَرِيُّ بِمُهْمَلَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَقَافٍ فَرَاءٍ: طَنَافِسُ ثخان . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْبُسُطِ عَبْقَرِيٌّ , وَيُقَالُ: إنَّ عَبْقَرَ أَرْضٌ يُعْمَلُ فِيهَا الْوَشْيُ فَنُسِبَ إلَيْهَا كُلُّ شَيْءٍ جَيِّدٍ . وَيُقَالُ: الْعَبْقَرِيُّ الْمَمْدُوحُ الْمَوْصُوفُ مِنْ الرَّجُلِ وَالْفُرُشِ . انْتَهَى . فَلَمَّا تَرَكَ الْإِنْسَانُ رَفِيعَ الثِّيَابِ وَرَضِيَ بِأَدْنَاهَا تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا جَازَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنْ كَسَاهُ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ الْبَدِيعَةَ الْمَنْسُوجَةَ عَلَى الْهَيْئَةِ الْعَجِيبَةِ الْغَرِيبَةِ مِنْ الْوَشْيِ وَغَيْرِهِ (فِي غَدٍ) فِي دَارِ الْبَقَاءِ الَّتِي لَا يَفْنَى شَبَابُهَا , وَلَا تَبْلَى ثِيَابُهَا , وَلَا تَهْرَمُ حُورُهَا , وَلَا تُهْدَمُ قُصُورُهَا فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَمَزِيدِ الْعِزِّ وَالتَّكْرِيمِ جَزَاءً وِفَاقًا . وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ , وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبِسُهَا " . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِيهِ قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ - قَالَ بِشْرٌ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ - أَحْسِبُهُ قَالَ: تَوَاضُعًا , كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ " وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَبَّانِ بْنِ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ بِزِيَادَةٍ . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيِّ , وَاسْمُهُ إيَاسٌ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا عِنْدَهُ الدُّنْيَا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَلَا تَسْمَعُونَ , أَلَا تَسْمَعُونَ , إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ , إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ , إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ " يَعْنِي التَّقَحُّلَ . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْبَذَاذَةُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَذَالَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ - هُوَ التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ بِرَثَاثَةِ الْهَيْئَةِ وَتَرْكِ الزِّينَةِ وَالرِّضَا بِالدُّونِ مِنْ الثِّيَابِ . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ " إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ " يَعْنِي التَّقَحُّلَ , وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: يَعْنِي التَّقَشُّفَ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الْبَذَاذَةُ التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ . وَفِي الصِّحَاحِ بَذُّ الْهَيْئَةِ , أَيْ رَثُّهَا , بَيْنَ الْبَذَاذَةِ والبذوذة , وَفِي جَمْهَرَةِ ابْنِ دُرَيْدٍ: بَذَّتْ هَيْئَتُهُ بَذَاذَةً وبذوذة إذَا رَثَّتْ , وَفِي الْحَدِيثِ (الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ) تَرْكُ الزِّينَةِ وَالتَّصَنُّعِ . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْمُبْتَذِلَ الَّذِي لَا يُبَالِي مَا لَبِسَ " . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا كِسَاءً مُلَبَّدًا مِنْ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُلَبَّدَةُ وَإِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ , وَأَقْسَمَتْ بِاَللَّهِ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْمُلَبَّدُ الْمُرَقَّعُ , وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَكْسَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَسَانِي خيشتين , فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي , وَأَنَا أكسى أَصْحَابِي . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الخيشة - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ بَعْدَهُمَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ - هُوَ ثَوْبٌ يُتَّخَذُ مِنْ مُشَاقَةِ الْكَتَّانِ يُغْزَلُ غَزْلًا غَلِيظًا وَيُنْسَجُ نَسْجًا رَقِيقًا , وَقَوْلُهُ: " وَأَنَا أَكْسَى أَصْحَابِي " يَعْنِي أَعْظَمَهُمْ وَأَعْلَاهُمْ كِسْوَةً . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ مُقْبِلًا عَلَيْهِ إهَابُ كَبْشٍ قَدْ تَمَنْطَقَ بِهِ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الَّذِي نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ لَقَدْ رَأَيْته بَيْنَ أَبَوَيْنِ يَغْذُوَانِهِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَقَدْ رَأَيْت عَلَيْهِ حُلَّةً شَرَاهَا أَوْ شَرَيْت بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَدَعَاهُ حُبُّ اللَّهِ وَحُبُّ رَسُولِهِ إلَى مَا تَرَوْنَ " . الْإِهَابُ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ - هُوَ الْجِلْدُ , وَقِيلَ: مَا لَمْ يُدْبَغْ . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَيْت عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ رَقَعَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِرِقَاعٍ ثَلَاثٍ لَبِدَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ " . وَفِي فُرُوعِ ابْنِ مُفْلِحٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذَا الْبَيْتِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِ شَرْحِهِ قَالَ: وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي تَرْكَ التَّرَفُّعِ فِي اللِّبَاسِ وَالرِّضَا بِالْأَدْنَى لِلَّهِ لَا لِعَجَبٍ وَلَا شُهْرَةٍ وَلَا غَيْرِهِ . قَالَ جَمَاعَةٌ: وَالتَّوَسُّطُ فِي الْأُمُورِ أَوْلَى , وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ بِحَسَبِ الْحَالِ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ مَوْجُودٍ , وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَفْقُودًا . وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ فِي آخِرِ أَحْكَامِ اللِّبَاسِ: قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَذَكَرْت رَجُلًا مِنْ الْمُحَدِّثِينَ يَعْنِي لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه , فَقَالَ: أَنَا أَشَرْت بِهِ أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ , وَإِنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ حُبَّهُ لِلدُّنْيَا . وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرَهُ , وَقَالَ: كَمْ تَمَتَّعُوا مِنْ الدُّنْيَا إنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَحِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا . قَالَ: وَذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلًا مِنْ الْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ: إنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ زِيُّهُ زِيَّ النُّسَّاكِ . وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزَاءِ اللَّهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ حَسَرَاتٍ عَلَى الدُّنْيَا . وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ رضي الله عنه يَا عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّك وَلَا مِنْ كَدِّ أَبِيك وَلَا كَدِّ أُمِّك فَأَشْبِعْ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِك , وَإِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ , وَلُبُوسَ الْحَرِيرِ وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِينِيّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا فِي الْفُرُوعِ: أَمَّا بَعْدُ فاتزروا وَارْتَدُوا , وَأَلْقُوا الْخِفَافَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ , وَعَلَيْكُمْ بِلِبَاسِ أَبِيكُمْ إسْمَاعِيلَ , وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ وَعَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ , وَتَمَعْدَدُوا , وَاخْشَوْشِنُوا , وَاخْلَوْلِقُوا , وَاقْطَعُوا الرَّكَبَ وَانْزُوا وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ . وَبَيَّنَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ سَبَبَ قَوْلِ عُمَرَ ذَلِكَ . فَعِنْدَهُ فِي أَوَّلِهِ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ بَعَثَ إلَى عُمَرَ مَعَ غُلَامٍ لَهُ بِسِلَالٍ فِيهَا خَبِيصٌ عَلَيْهَا اللُّبُودُ , فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ قَالَ: أَيَشْبَعُ الْمُسْلِمُونَ فِي رِحَالِهِمْ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: لَا قَالَ عُمَرُ: لَا أُرِيدُهُ , وَكَتَبَ إلَى عُتْبَةَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّك الْحَدِيثَ . قَالَ زِيُّ - بِكَسْرِ الزَّايِ - وَلَبُوسِ - بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الْبَاءِ . وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَأَلْقُوا الرَّكَبَ وَانْزُوا وَارْتَدُوا , وَعَلَيْكُمْ بِالْمُعَدِّيَةِ , وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ , وَذَرُوا التَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْعَجَمِ . فَقَوْلُهُ: وَانْزُوَا أَيْ ثِبُوا وَثْبًا . وَالْمُعَدِّيَةُ أَيْ اللُّبْسَةُ الْخَشِنَةُ نِسْبَةً إلَى مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: تَمَعْدَدُوا , وَلِذَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَيْ تَشَبَّهُوا بِعَيْشِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ , وَكَانُوا أَهْلَ قَشَفٍ وَغِلَظٍ فِي الْمَعَاشِ . يَقُولُ فَكُونُوا مِثْلَهُمْ وَدَعُوا التَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْعَجَمِ . قَالَ: وَهَكَذَا هُوَ فِي حَدِيثٍ لَهُ آخَرَ: عَلَيْكُمْ بِاللُّبْسَةِ الْمُعَدِّيَةِ . وَفِي هَامِشِ الْفُرُوعِ مِنْ خَطِّ الشِّهَابِ الْفَتُّوحِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاقْطَعُوا الرَّكَبَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ هُنَا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْكَافِ . قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَهُوَ مَنْبَتُ الْعَانَةِ . وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَانَةُ أَوْ مَنْبَتُهَا وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - حَلْقُ الْعَانَةِ , كَأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَخْشَوْشِنُوا قَالَ: وَمَعَ ذَلِكَ احْلِقُوا الْعَانَةَ . قَالَ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى . قُلْت: وَالْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ وَاقْطَعُوا الرَّكَبَ وَانْزُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّكَبِ مَا يُرْكَبُ فِيهِ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالرَّكَبُ ككتب جَمْعُ ركابات , وَرَكَائِبُ مِنْ السَّرْجِ كَالْغَرْزِ مِنْ الرَّحْلِ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ صَاحِبِ الْفُرُوعِ فِي تَفْسِيرِ وَانْزُوا أَيْ ثِبُوا وَثْبًا . وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِ النَّاظِمِ: وَسِرْ حَافِيًا أَوْ حَاذِيًا إلَخْ . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ " إيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بالمتنعمين " . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ: الْآفَةُ فِي التَّنَعُّمِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِهِ لَا يَكَادُ يُوفِي التَّكْلِيفَ حَقَّهُ . الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَكْلُ يُورِثُ الْكَسَلَ وَالْغَفْلَةَ وَالْبَطَرَ وَالْمَرَحَ . وَمِنْ اللِّبَاسِ يُوجِبُ لِينَ الْبَدَنِ فَيَضْعُفُ عَنْ عَمَلٍ شَاقٍّ , وَيَضُمُّ ضِمْنَهُ الْخُيَلَاءَ . وَمِنْ النِّكَاحِ يَضْعُفُ عَنْ أَدَاءِ اللَّوَازِمِ . الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ أَلِفَهُ صَعُبَ عَلَيْهِ فِرَاقُهُ فَيُفْنِي زَمَنَهُ فِي اكْتِسَابِهِ , خُصُوصًا فِي النِّكَاحِ , فَإِنَّ الْمُتَنَعِّمَةَ بِهِ تَحْتَاجُ إلَى أَضْعَافِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ غَيْرُهَا . قَالَ: وَالْإِشَارَةُ بِزِيِّ أَهْلِ الشِّرْكِ مَا يَنْفَرِدُونَ بِهِ . فَنَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ . فَإِنْ قُلْت: قَدْ كَرِهَ النَّاظِمُ لِلْغَنِيِّ لُبْسَ الرَّدِيءِ , وَهُنَا نَدَبَ إلَى الرِّضَا بِاللِّبَاسِ الْأَدْنَى , فَهَلْ هَذَا إلَّا تَدَافُعٌ؟ قُلْت: لَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ مُرَادُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى عَلَيْهِ أَثَرَ نِعْمَتِهِ لِمَا أَسْلَفْنَا مِنْ الْفَوَائِدِ , فَلَا يَلْبَسُ لُبْسَ الْفُقَرَاءِ , وَلَكِنْ لِيَتَوَسَّطْ فِي مَلْبَسِهِ , أَوْ يَكُونُ لُبْسُهُ ثِيَابَ التَّجَمُّلِ أَحْيَانًا بِنِيَّةِ إظْهَارِ أَثَرِ نِعَمِ الْبَارِي جَلَّ شَأْنُهُ , فَمَا يَنْفَكُّ عَنْ عِبَادَتِهِ مَا دَامَ مُلَاحِظًا لِذَلِكَ . وَهُنَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ يَرْضَى بِالْأَدْنَى عَنْ الْأَعْلَى تَوَاضُعًا لِلَّهِ , وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِمَا لَا يَلْتَحِقُ بِهِ إلَى زِيِّ الْفُقَرَاءِ بَلْ يَتَوَسَّطُ , كَمَا حَكَاهُ فِي الْفُرُوعِ كَمَا أَسْلَفْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا , وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ زِيِّ أَهْلِ الْخُيَلَاءِ فَتَكُونُ حَالَتُهُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ فَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا كَمَا قَدَّمْنَا , فَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأَفْضَالِ جَلَّ شَأْنُهُ .
لَا سِيَّمَا عِنْدَ لُبْسِ الثِّيَابِ وَيَحْسُنُ حَمْدُ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ وَلَا سِيَّمَا فِي لُبْسِ ثَوْبٍ مُجَدَّدِ (وَيَحْسُنُ) بِمَعْنَى يُشْرَعُ (حَمْدُ اللَّهِ) جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ (فِي كُلِّ حَالَةٍ) مِنْ الْحَالَاتِ , أَمَّا فِي الْقَلْبِ فَمُطْلَقًا , وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَكَذَلِكَ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْقَذِرَةِ وَكَوْنِ الرَّجُلِ عَلَى حَاجَتِهِ وَزَوْجَتِهِ , وَكُلِّ مَكَانٍ لَا يَحْسُنُ الذِّكْرُ وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (وَلَا سِيَّمَا) تَقَدَّمَ أَنَّ لَا سِيَّمَا يَدْخُلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى . وَقَالَ ابْنُ الْهَاثِمِ: هِيَ مِنْ أَدَوَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا بَلْ هِيَ مُضَادَّةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ , فَإِنَّ الَّذِي بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ قَبْلَهَا , وَمَشْهُودٌ لَهُ بِأَنَّهُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ انْتَهَى . فَأَشْعَرَ كَلَامُ النَّاظِمِ أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ حَالَةٍ وَيَحْسُنُ أَيْضًا مِنْ بَابِ أَوْلَى حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ (فِي) حَالَةِ (لُبْسِ) الْإِنْسَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ل (ثَوْبٍ) مِنْ الثِّيَابِ مِنْ إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَقَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ وَسَرَاوِيلَ وَنَحْوِهَا (مُجَدِّدٍ) أَيْ جَدِيدٍ لَمْ يَكُنْ اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ . وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ , وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ " هَكَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ وَلَمْ يَقُلْ الْحَاكِمُ وَمَا تَأَخَّرَ .
(فَائِدَةٌ) ذَكَرَ الْعَلْقَمِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ جُمْلَةَ الْأَعْمَالِ الْوَارِدَةِ الَّتِي مَنْ عَمِلَ بِهَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ سِتَّةَ عَشَرَ جَمَعَهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَنَظَمَهَا فَقَالَ: قَدْ جَاءَ عَنْ الْهَادِي وَهُوَ خَيْرُ نَبِيٍّ أَخْبَارٌ مَسَانِيدُ قَدْ رُوِيَتْ بِإِيصَالِ فِي فَضْلِ خِصَالٍ وَغَافِرَاتِ ذُنُوبِ مَا قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ لِلَّمَّاتِ بِأَفْضَالِ حَجٌّ وَوُضُوءٌ قِيَامُ لَيْلَةِ قَدْرٍ وَالشَّهْرُ وَصَوْمٌ لَهُ وَوَقْفَةُ إقْبَالِ آمِينَ وَقَارٍ فِي الْحَشْرِ وَمَنْ قَادَ أَعْمَى وَشَهِيدٌ إذَا الْمُؤَذِّنُ قَدْ قَالَ تَسْعَى لِأَخٍ وَالضُّحَى وَعِنْدَ لِبَاسِ حَمْدٍ وَمَجِيءٍ مِنْ إيلِيَاءٍ بِإِهْلَالِ فِي الْجُمُعَةِ يَقْرَأُ قواقلا وَصِفَاحَ مَعَ ذِكْرِ صَلَاةٍ عَلَى النَّبِيِّ مَعَ الْآلِ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَبِسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي , ثُمَّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي ثُمَّ عَمَدَ إلَى الثَّوْبِ الَّذِي خَلِقَ فَتَصَدَّقَ بِهِ كَانَ فِي كَنَفِ اللَّهِ , وَفِي حِفْظِ اللَّهِ وَفِي سِتْرِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ v وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ غَرِيبٌ . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْهُ . وَأَبُو الْعَلَاءِ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: مَجْهُولٌ . وَأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ الْجُهَنِيُّ مَوْلَاهُمْ الْوَاسِطِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: صَدُوقٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ سَعْدٍ . وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ . وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ . وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِلَفْظِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا أَحْسِبُهُ قَالَ جَدِيدًا فَقَالَ حِينَ يَبْلُغُ تَرْقُوَتِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَمَدَ إلَى ثَوْبِهِ الْخَلَقِ فَكَسَاهُ مِسْكِينًا لَمْ يَزَلْ فِي جِوَارِ اللَّهِ وَذِمَّةِ اللَّهِ , وَفِي كَنَفِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا حَيًّا وَمَيِّتًا حَيًّا وَمَيِّتًا مَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ سِلْكٌ " زَادَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ " فَقُلْت مِنْ أَيِّ الثَّوْبَيْنِ؟ قَالَ لَا أَدْرِي " . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عِنْدَ الْكِسْوَةِ وَفِي لَفْظٍ إذَا لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي مِنْ الرِّيَاشِ مَا أَتَجَمَّلُ بِهِ فِي النَّاسِ وَأُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي " . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعْبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عُمَرَ قَمِيصًا أَبْيَضَ غَسِيلًا فَقَالَ ثَوْبُك هَذَا غَسِيلٌ أَمْ جَدِيدٌ؟ قَالَ لَا بَلْ غَسِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبِسْ جَدِيدًا وَعِشْ حَمِيدًا وَمُتْ - وَفِي لَفْظٍ - وَتَوَفَّ شَهِيدًا يَرْزُقْك اللَّهُ قُرَّةَ عَيْنٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " . وَفِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ قَمِيصًا أَوْ إزَارًا أَوْ عِمَامَةً يَقُولُ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتنِيهِ , أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِهِ وَخَيْرِ مَا صُنِعَ لَهُ , وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ . وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ " وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا رَأَى أَحَدُهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ ثَوْبًا قَالَ: تُبْلِي , وَيَخْلُفُ اللَّهُ " ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ . وَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
|